العذاب.. والمتعة
قالت :
ما الفرق بين المتعة والعذاب . . .
فلم أجد في عقلي غير أنهما أشياء تأخذ من حياة الناس
أكثر من أن تمنحهم شيئاً في داخلهم.. !!؟
قلت :
المتعة هي اللذة.. و العذاب هو الألم.. وفرق كبير بين حال تلذّذ إنسان
وبين حال ألمه وعذابه..
الألم أبقى من المتعة لبقاء أثاره في نفس صاحبه..
والمتعة أكثر رحيلاً لكثرة حيرة المرء في أماكن متعته..
العذاب هو الروح والمتعة هي الجسد..
قد تكون المتعة أسرع أتساعاً.. ولكن الألم أعمق تأثيراً وأكثر أحتلالاً..
الألم أطول عمراً من عمر المتعة.. لهذا أن الألم أو العذاب أكثر
وفاءً ونبلاً وعطاءً.. والمتعة أكثر جحداً وبخلاً لتنقلها من مكان إلى مكان
آخر دون أن يستقرَّ لها مستقر دائم في حياة الإنسان..
قالت :
وما مدى درجة العاطفة بينهم.. ؟
قلت :
عاطفة العذاب أشمل من عاطفة المتعة.. !!
حيث أن اللذة في عاطفتها تأتي سريعاً.. وترحل مثلما جاءت
ولا يبقى منها شيئاً..
أما عاطفة العذاب قد يرحل الألم منها ولكن تبقى هي في عقل وروح صاحبها
وقد ترسم له طريقه ليشقه نحو سعادته..
قالت :
أقرأ لك دائماً وأقف كثيراً عند قولك بأن الحياة التي لم تعاني العذاب
لا يمكن أبداً أن تقدر السعاده.. !!
فما كان قصدك من وراء ذلك.. ؟ فيخيل لي كلما قرأت هذه العبارة
بأنها دعوة وكأنك تدعوا للعذاب لجني السعاده من وراءه..
قلت :
السعادة لا تحتاج للعذاب لتجد لها وجوداً في وجود البشر أكثر من أحتياجها
للتقدير لها منهم . .
ولكن العذاب من أكثر الأشياء التي تجعل في نفس المعذب ذلك الشوق الحاد
لرؤيته إلى تلك السعادة.. فتكون رؤيته أكبر وأنضج من رؤية غيره..
فهو يدرك تماماً مدى قيمة وجمال سعادته بعد ظلام عذابه..
ويعرف أين مكان سعادته بسبب عذابه.. فأن وصل لها وعاش بها
أدرك قيمتها لكثرة الالم الذي يسكنه . . أما ذلك السعيد في سعادته
والأكثر منهم جاءت سعادته من وراء الزوائد والظواهر ومن واقع ما حوله
سواء مال والده أو منصبه لا يعي منه قيمة حقيقة لها . .
فيعيشها كما هي المتعة الزائفة . . لـهذا كثيراً ما نراه متقلب
في مزاجية عقله و فوضوية هدوءه..
فالعذاب أو الألم حتى الأطفال أدركوا قيمته بطريقة غير مباشرة.. !!؟
فنجد الطفل بعد رفض أهله لشئ يريده سواء لعبه له أو غيرها . .
يبكي ويصرخ من أجله.. فبعد إصراره وظرّبه من أهله . .
نجدهم بعد هذا أنهم قد أسترّضوه وأشتروا له تلك اللعبة.. فحال الطفل هنا . .
أنه أدرك من وراء ألمه وبكاءه تلك المتعة واللذة ..
فهو في بكاءه يحصل على كل شئ.. فيتألم ويبكي في بدايته من أجل
الحصول على شئ.. فيجد اللذة والمتعة بعد حصوله عليه..
فيستمر على حاله في هذه الطريقة في كل مره وكل ما أراد منهم شيئاً
بكى أمامهم وجنى منهم ما أراده..
لأن أهله في واقع رفضهم فيما يطلبه منهم فرض عليه تلك الدموع
لجلب له ما يريده منهم..
وهذا الشئ في شرعية التربية خطأ كبير . . خطأ أن ندفع
تلك الأطفال إلى تلك الحالة . .
فلكي يحصلوا على غرضهم فعليهم - أولاً - أن يدفعوا ثمناً له من دموعهم
لماذا . . !!؟
لماذا حتى يحصل الطفل على شئ يجب عليه قبل أيّ شئ
أن يذرف من الألم ما يذرف منه.. !!؟ فيشتكي منه أنين الصمت بعد هجعة بكاءه..!
أأتباعاً لتلك العبارة ؟ أو أن على الإنسان أن يتعذب ليحصل على سعادته.. ؟
لا . . ليس هم أولئك الأباء على تلك النظرة.. لأنهم لم يذوقوا شيئاً
من العذاب الحقيقي حتى يعرفوا قيمة السعادة.. فرفضهم دليلاً على جهلهم
في ذلك . . فهناك أباء غيرهم عانوا ما عانوا وكان الحرمان
عنواناً لهم ورفيقاً لدربهم.. وبعدما أدركوا سعادتهم وأنجبوا أطفالاً
مازالوا يحرصوا كل الحرص على أن يجلبوا لأطفالهم ما أرادوه منهم..
لأنهم ذاقوا من الحرمان أكثر من غيرهم.. فلا يريدوا لأبنائهم حياة
تشبه حياتهم في صغرهم..
فالإنسان لا يختار العذاب حتى يتعذب.. ولكن يجد ظروفه قد أرادت له ذلك
وفرضت عليه واقعاً لا يريده ولا يحبه.. ولكن الجميل في ذلك الواقع . .
أن الإنسان في لحظات عذابه وألمه يكون أكثر نبلاً من غيره
وأعمق إحساساً بمن حوله.